بداية ثورة اللبناني على ذاته!

مشاركة


لبنان اليوم

*بسام سامي ضو

لم يعد ممكناً لأحد تجاوز أو تجاهل ما يعصف بلبنان من حراكٍ لا أذكر أننا شهدنا مثيلاً له في السابق، ليس عددياً بالطبع، فثمة متربصون كثر قادر كلٌّ منهم على حشد ما يفوق المنتفضين بأضعاف، بل المقصود طبيعة هذا الحراك ودلالاته، في الشكل كما في المضمون.

حتى ساعات ما قبل 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت السمة الغالبة على اللبنانيين، والشباب منهم تحديداً، أنهم شعب خانع ومستقيل من دوره ومتخلٍّ عن موقعه ومتنازل عن قوّته ومتنكر لأبسط حقوقه.. وقيل فيه إنه "شعب الأراجيل"، يواجه كل مشكلة تطال حياته اليومية وتضيف المزيد من الهموم عليه، بجلسةٍ مع الأهل أو الأصحاب حول الأركيلة، يتداولون خلالها بآخر المستجدات، مثل ارتفاع سعر البنزين، أو زيادة ساعات انقطاع الكهرباء، أو تراكم جبال النفايات أمتاراً تكاد تجعلها تنافس جبال لبنان، فيتناقشون ويبدي كلٌّ منهم وجهة نظره في هذه الويلات ويعبّر عن رفضه لهذا الواقع المرير، وعن شعوره بالمهانة في وطنه وبالإحباط من سياسييه، و"يثور" على هؤلاء بـ "نَفَس أركيلة" عميق يُلهب جمراته التي يبقى سعيرها بَرَداً أمام أتون المشاكل المتكاثرة التي تمسك بخناقه وتكاد تقضي ليس على مستقبله المجهول فحسب، بل على حاضره القاتم أيضاً.. وقيل في الشباب إنهم "ثوار الفايسبوك"، حيث يتقمّص كل منهم شخصية المتمرد والرافض للواقع والمحرض على العصيان، ويقيس نجاح "ثورته" الافتراضية هذه بعدد اللايكات و"الشير" التي يلقاها البوست الأحمر.. وقيل في الصبايا أن لا همّ لهنّ سوى اللحاق بركب الموضة، واستنساخ أحدث الصرعات في نفخ الشفتين وشدّ الصدر والغرق في عالم صور الإنستغرام وسخافاته.

لعلّ أقل انتصارات "الثورة" التي نشهدها منذ حوالي الأسبوعين هي انقلاب هذه الصورة رأساً على عقب، في تفجّرٍ نسف ذلك الخمول غير المقبول ولا المبرر الذي طَبَع شخصية اللبناني، وطالت أول تشظياته صمته، فصرنا نسمع صوته واضحاً عالياً مطالباً بحقوقه، وطالت بصيرته، فصار يدرك أين تقع مصلحته ومصلحة أبنائه، وطالت عزلته، فانفتح - ولو متأخراً - على اللبناني "الآخر" ليكتشف أنّ همومهما واحدة ومصدرها واحد وأمانيهما واحدة.. وطالت التشظيات صورة الشابة اللبنانية فلم تشوّهها، بل زادتها جمالاً، فهي الأنيقة والمتحررة والمتعلّمة والمتساوية بالشاب والمدركة ماذا تقول وبماذا تطالب، والمبدعة شعارات مثل "هيلا هيلا هوو".. وطالت تبعية اللبناني لزعيمٍ كان (وآمل أن أكون محقاً في عدم استخدام عبارة "ولا يزال") يرى فيه نصف إله على الأرض، والمنقذ الأوحد له من فقرٍ وجوع وجهل ومرض وبطالة وبهدلة شيخوخة، فيما هذه من أبسط حقوقه كمواطن، ومن أهم واجبات الدولة ورجالاتها تجاهه..

هذه الانتصارات وغيرها لن تكون كافية لإسقاط السلطة الحاكمة أو لتغيير النظام وإقامة الدولة المدنية على أنقاض نظامنا الطائفي المقيت، ولن تكون كافية لمحاسبة الفاسدين كلن يعني كلن، كما يطالب المنتفضون، لكنها على الأقل انتصارات كافية لأن تؤسس لشخصية جديدة للبنانيين، والشباب منهم تحديداً، تجعلهم قادرين على الخروج من جلابيب آبائهم العفنة والملطخة بحروبٍ كرّست الانقسامات وفتّتت الشعب وجرّدته من سلطته.

*صحافي لبناني







مقالات ذات صلة