تمايز وليد جنبلاط... وتفرّده
* بسام سامي ضو
ينفرد النائب السابق وليد جنبلاط بجرأةٍ قلّة هم الذين يتحلّون بها، باتت منذ عقودٍ تميّزها تلك النزعة إلى حكمةٍ ليست وليدة العمر وتراكماته فحسب، بل تنبثق من معايشته العديد من المراحل بتحدياتها ومآسيها وخيباتها، ومن قراءته العميقة لتاريخ لبنان وصراعاته المتكررة، ومن مواكبته وأحياناً كثيرة إشراكه في واقع الخارطة السياسية للمنطقة وما يُخطط لها، ومن متابعته الشاملة لمسار رسم "الكبار" واقع العالم في السياسة والاقتصاد والحروب والتفجيرات والتسويات المرتبطة بالمحاور والمصالح التي غالباً ما تدفع الدول الصغيرة والناس الفقراء أثمانها.
لم يتنكر جنبلاط يوماً لموقعه الفاعل في الحرب اللبنانية، ولا غسل يديه من مسؤوليةٍ يتشاركها مع الآخرين، بالرغم من التفاوت بين مبادرٍ ومعتدٍ ومُدافعٍ عن نفسه فيها، بل كان الأوّل (والوحيد) الذي دعا إلى محاكمة جميع القادة المشاركين في هذه الحرب، واضعاً نفسه في تصرّف القضاء، لإدراكه ربما أنّ هذا ما لم ولن يحدث بسبب تعقيدات التركيبة اللبنانية، ليكرّس لاحقاً مصالحةً تاريخية بين طرفين فيها في العام 2001، متمرّداً على رغبة سلطة الوصاية آنذاك، علماً أنّ الشهيد جورج حاوي كان سبقه في العام 1991 بالدعوة إلى مؤتمر مصالحة وطنية نجحت سلطة الوصاية إياها في منع انعقاده بعدما فرضت على غالبية الأفرقاء "المتصارعين" سابقاً عدم المشاركة فيه، تكريساً لاستمرار نهج التصارع الداخلي. كما لم يتردّد جنبلاط في تلاوة "فعل الندامة" مجدّداً وتكرار نسخة المصالحة بعد حوالي عقدين من الزمن، إرضاءً لنزعة سلطة (ومحاولةً لمعالجة عقدة نفسية) لدى من اعتبر نفسه "وليّ الدم" وشكا من أنّه لا يزال "لا يأمن النوم في الجبل"!
في مرحلةٍ تالية لم يتأخر جنبلاط في إعلان قناعته بالانضواء ضمن مؤسسات الدولة، وهو ما أعرب عنه حتى في ذروة موجة اغتيالات قادة وشخصيات بارزة في "14 آذار". وأذكر أنه خلال تشييع الشهيد القاضي وليد عيدو لم يملّ من الردّ على الناس في الشارع المطالبينه شخصياً بالانتقام لعيدو بالقول:"الدولة، مرجعنا الدولة".
وأذكر أيضاً أنه خلال جولةٍ انتخابية لمرشحيه في منطقة الجرد، كان يشدّد في كل قرية على دعوة مناصريه إلى الانفتاح على الجميع والترحيب بافتتاح "الديمقراطي والتوحيد والقومي" مكاتب لهما في الجبل (المقصود الحزب الديمقراطي اللبناني بزعامة النائب طلال أرسلان، وحزب التوحيد العربي بزعامة وئام وهاب والحزب السوري القومي الاجتماعي).
كما بادر- بعكس كثيرين في مثل موقعه- للنزول إلى الشارع لردع مناصريه عن الإتيان بردود فعل أو انفعال مذهبية خلال أحداث 7 أيار 2008، والجميع يذكر كيف كان يصرخ في وجه بعضهم في بحمدون داعياً إياهم إلى الانسحاب من الشارع.
وفي خضمّ "ثورة 17 تشرين" التي لم توفّره بشعاراتها المناهضة له واعتباره من جماعة "كلن يعني كلن" الذين ينبغي إقصاؤهم عن الساحة السياسية ومحاسبتهم، حضّ مناصريه على تقبّل حراك الشارع (الكثيرون منهم لم يستجيبوا لرغبته هذه) مؤيداً مطالب الناس وصرختهم المنتفضة في وجه طبقةٍ سياسية حاكمة لطالما كان هو أحد أركانها. كما بادر لدعوة مناصريه إلى بيته في كليمنصو، منعاً لتصادمٍ (وأكثر من ذلك) كان محتوماً بينهم وبين الحركة الاعتراضية لمناصري التيار الوطني الحرّ أمام مصرف لبنان، بعد تحوّلها استفزازيةً بموقعها وشعاراتها المهاجمة له بإسفاف.
وبالأمس كان جنبلاط الأكثر حرصاً على سلامة اللبنانيين، داعياً إياهم إلى الحذر الجدّي والحجر المنزلي، ومطالباً الحكومة بإعلان حال الطوارئ حفاظاً على السلامة العامة.
كما كان السياسي الوحيد الذي تبرّع لمستشفى رفيق الحريري الجامعي وللصليب الأحمر اللبناني بمبلغ 600 ألف دولار، ناهيك عن تبرعاته السابقة لمستشفيات ومراكز صحية في منطقة الجبل، فيما العشرات من "الأثرياء الجدد" نائمون على ثرواتٍ هبطت عليهم في غفلةٍ من قانون "من أين لك هذا" لم يحرّكوا قرشاً، مفوّتين فرصةً "خيريّة" لكي يعيدوا للناس في زمن الكورونا غيضاً من فيض ما أخذوه منهم في زمن المحاصصات والفساد.
في كل مرحلةٍ يتمايز وليد جنبلاط ويشغل الناس بمواقفه، تأييداً أم اعتراضاً، مودةً أم حقداً، لكنه في كل الحالات يبقى متمايزاً ومتفرّداً.
* كاتب وصحافي لبناني في دبي