الدراما التركية: البحر الأسود... الفن في خدمة قضايا المرأة
سوزان أبو سعيد ضو
"عندما تتعرض المرأة للضرب من قبل والدها وأخيها وزوجها، ومن قبل أي رجل، يكون هناك آثار في ظهرها وذراعيها ووجهها، بعدها تلك الآثار تزول، أي تصبح غير مرئية، والحقيقة أنها لم تزل، بل نزلت إلى العمق، لا تظهر إلى الخارج، إنها في مكان عميق، لدرجة أنها تتحسن بعناق من القلب فقط"، في هذا النص المقتبس من الدراما التركية المعروفة في لبنان بـ "البحر الأسود" أو "اشرح أيها البحر الأسود"، بالتركية، Sen Anlat Karadeniz، فقد ترددت كثيرا قبل أن أكتب عنه، بداية كون متابعة المسلسلات ليست من هواياتي، ولكن كون هذا الموضوع الإجتماعي بالذات، يستأثر باهتمامي الشخصي منذ زمن، فضلا عن أنه يمس قضايا إجتماعية عدة، وبالذات قضية جوهرية تعاني منها المرأة في بلادنا وفي معظم أنحاء العالم، وهو العنف ضد المرأة، وفي هذا المجال، نجد أن الفن يمكن أن يخدم رسالة أكبر، وهي تثقيفية وتوعوية وتربوية وفي مجالات عدة.
وفي تسلسل درامي لا يخلو من عناصر الإثارة والتشويق، إلا أنه يميل إلى السرد والإطالة كسائر المسلسلات التركية، وابتكار قصة أو قضية تطاول كل ممثل في هذا المسلسل، ويتضح الهدف الأسمى وهو فضح التعنيف بهذه الصورة الدرامية، وبهذه المشاهد القاسية (التي طالب كثيرون بمنع بثها) إلا أنها قد تساعد نساء تتعرضن للتعنيف على القيام بالخطوة الأولى، بأن يسعين لطلب المساعدة.
بالمقابل، لا يمكننا إنكار البحث الذي قام به كتاب المسلسل في الحالة النفسية للمرأة المعرضة للتعنيف على مدى سنوات، وكيف أنها قاومت معنّفها وحاولت الهرب مرة تلو المرة ولـ 22 مرة، وكل مرة لا تتعرض للأذى الجسدي فحسب، بل أساليب من الأذى النفسي المتواصل، ولم تستسلم، وكيف تمكنت من إيصال الرسالة، بأن على المرأة أن تقاوم، وأن تسعى للقانون، وتحاول الإقتصاص من المعنّف، وحتى أن تسعى للمساعدة النفسية لتتمكن من الوقوف ومواجهة معنّفها، وفي هذه الحال فالمعنف قام "بشراء هذه الطفلة بعمر 16 عاما" ومن أبيها، وقد زوجها بالقوة بواسطة رجل دين، وهذا النوع من زواج الأطفال يطرح فكرة أخرى من العنف ضد المرأة، والذي قامت منظمات نسائية في لبنان بحملات لمناهضته، كما هناك البحث في نفسية المعنّف، وأنه عانى من التعنيف الأسري، وهذا يطرح جانبا آخر تتم مقاربته في هذا المجال، وأن المعنّف قام بجريمة قتل لينقذ قريبة له تعرضت للتعنيف والإغتصاب، وأتبعها بجرائم عدة، وتتمحور حبكة المسلسل في الأساليب والمراوغات التي يقوم بها المعنّف وبعقله المريض لتنفيذ مراده، وهناك إشارة هامة، لدور رجل الدين الإجتماعي الكبير والشامل في توجيه ردود المجتمع وتعنيفه بصورة أخرى للمرأة المطلقة التي تزوجت من جديد من شاب لم يتزوج من قبل، وفي كل موقف لرجل الدين، دعوة للرحمة بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولتغيير الصورة النمطية في التعامل مع المرأة والبيئة وحتى الرفق بالحيوانات.
وهناك دور الطفل الواقع وسط هذه الميمعة، وما يعانيه الأطفال وسط زواج تتعرض فيه المرأة للتعنيف، فالطفل وإذ يشاهد أمه تتعرض للتعنيف، لا يسمح له عقله الصغير باستيعاب كل ما يحصل حوله، لكنه يقول أنه لم ير أن "بسمة أمه جميلة إلى هذا الحد، إذ أنه لم يرها قبل الآن"، فهو لم يرها إلا وهي حزينة أو دامعة نتيجة تعنيفها، ويرفض أن يطلق اسم أبي على أبيه، بل يتوصل إلى إطلاق هذا اللقب على منقذه ومنقذ أمه، وهناك شخصية ثانوية في المسلسل، تذكر نقطة هامة للغاية، أن الأم وهي تلد طفلها فهي تشعر بالأمومة، بالمقابل، فإن الأبوة يجب أن تكتسب وأن يتم تعلمها، فهل لو فكر المعنّف وفي هذه الحالة الرجل بعائلته وأطفاله، وما سينعكس على اطفاله نتيجة تصرفاته، فهل سيغير هذا المسار، وإن لم يفعل فإلى أي حد سيصل.
لإكمال الحبكة، هناك صورة البطل، والحبيب، الذي يحاول أن يبلسم الجراح، التي وإن بدت سليمة، تعود لتطفو على الوجه مع كل تحد يواجهه الثنائي.
هو مسلسل يتابع الآن عبر الفضائيات ووسائل إعلام عربية وعلى منصات التواصل الإجتماعي المختلفة، ووفقا لويكيبيديا فالمسلسل الذي انتهى عرضه في العام 2019 على التلفزيون التركي، حصل على نجاح كبير حيث وصل عدد مشتركين قناة المسلسل على اليوتيوب إلى ثلاثة مليون وهو أول مسلسل يصل عدد متابعاته إلى مليون من أول أسبوع من عرضه. ضرب عدد مشاهداته اعداد قياسية، كما وتم ترشيحه لمهرجان كان وبيع لاكثر من 60 دولة. فاز بـ 4 جوائز بالفراشة الذهبية لأفضل سيناريو أفضل اخراج Yusuf Ömer Sinav، أفضل ثنائي Ulaş Tuna Astepe, Irem Helvaciıoğlu، وأفضل ممثل طفل Demir Birinci .
من جهتي كمشاهدة، لا شك بأن المسلسل بصورته النهائية، متكامل العناصر ومشوق، خصوصا في فكرته الأساسية في المس بأحد جوانب حياة الأنثى في المجتمع الشرقي التي قلما تناولها، ويجعل المشاهد يشعر بالمشاعر المتناقضة، من فرح لحزن، من أمل ليأس، من خوف لجرأة، ولا يخلو من الطرافة والأحداث الجانبية التي تساهم بالإطالة ، لتبدأ حادثة جديدة تساهم بجذب انتباه المشاهد للمتابعة، كما هو متبع في كثير من المسلسلات التركية، لكن هناك ناحية جمالية لجهة إبراز التقاليد التراثية من شعر ورقص وحفلات الختان في مجتمع شمال تركيا، وفي هذه الحالة تحديدا، في منطقة البحر الأسود، وفي التسويق السياحي للمنطقة وجمالها وتنوعها، وهو ما نفتقده في كثير من مسلسلاتنا اللبنانية.
تؤكد هذه الدراما دور الفن وبكافة أشكاله في مقاربة قضايا المجتمع، ومحاولة تصويرها بالشكل الأوضح، ليتفاعل معها الأشخاص، وهو ما قد يدفع في هذه الحالة المرأة للثورة على واقعها والأمل والجرأة والمواجهة، وألا تستسلم، وألّا تشعر وكأنها تستحق ما تناله، بل أن تسعى وحتى تنال كامل حقوقها، هو دراما تحكي عن الفرصة الثانية في حب حقيقي، في المجتمع الذكوري، وفي تراكم تجارب إنسانية في نص يجمع عناصر الأدب والفن والتراث ودور المعتقد الإيجابي في تهذيب الفرد والمجتمع.
ختاما، من الضروري التذكير بأرقام هواتف منظمات يمكن أن تلجأ إليها من تتعرض للتعنيف، أو إن لاحظ أحدهم نساء يتعرضن للتعنيف، عبر الاتصال على الخط الساخن الخاص لقوى الأمن الداخلي 1745، أو مع إحدى المنظمات النسائية العاملة في هذا المجال، ومنها:
جمعية كفى: خط الأمان مع مساعدة قانونية: 24/7، على الرقم: 03018019
الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة: 70518291
منظمة أبعاد: 81788178.