إكذب... واكذب فلا بد أن يصدّقك أحدهم!
*محمد صالح صرخوه
كنت أشاهد مسلسلا على يوتيوب يحكي قصة عاطفية، شدّتني عبارة قالتها بطلة القصة عن زوجها حين وصفته بأنّه (حبّ حياتها) كما وصفت زوجها السابق (بحبّها الأول).
شدّتني عبارة قالتها إحدى شخصيات المسلسل، حيث قال الرجل لزوجته الشابة (سنشيخ معا ونهرم معا وتبيضّ رؤوسنا ونموت معا أيضاً).
تذكّرت أحد الأقرباء حينما أراد التحدث عن حياة أخيه قائلا (من المعروف أنّ الذكي في حياته العلميّة غبيّ في حياته العمليّة).
قال أحد جيراننا بعد سماعه خبر وفاة والدي (الطيبين يموتون بسرعة، وسبحان الله، عيال الكلب والحرامية اللي تبيهم يموتون ما يموتون ولا يصير فيهم شي)!
تحليل
يغصّ الإعلام الموجّه بكومة أفكار لا دليل عليها ولا براهين... ثمة صناعة لعقائد المجتمعات، تبدأ بإلقاء فكرة ما في سيناريو مسلسلٍ ما على شكل جملة شعرية، أو على أقل تقدير جملة عاطفية غير اعتيادية، تمرّ هذه الجملة المفخخة بالفكرة الملفّقة عبر سياق القصّة إلى ذهن المتلقّي، ويقوم بدوره بهضمها دون تحديدها بين غمّازتين، إذ يميل الناس غالبا لاستحسان مثل هذه العبارات، دون استجوابها على منصة العقل البرهاني.
تتكرر مثل هذه الجمل في مواد مختلفة، يوحي تكرارها بشيء من جدّيتها، وهذا ما يجعل المتلقّي ميّالا لتصديقها كما لو كانت حقيقة واضحة.
يتبنّى المتلقّي هذه الفكرة غير المبرهنة، ويقوم باستخدامها بدوره في كلامه كما لو كانت حقيقة مطلقة، وهذا ما يفسر انتشار هذا الكم الهائل من الأفكار الملفّقة غير المبرهنة في أذهان الناس، ولعلّ الطريقة المثلى للتعامل الشخصي مع مثل هذه الأفكار هو ختمها بعلامة الاستفهام قبل تبنّيها.
فما معنى (حبّ حياتي)؟ وهل ثمة ما يثبت أن تجربة الحب تنبزغ في قلب الانسان لمرة واحدة في العمر فقط؟ وما صحة ودقّة تصنيف الحب وفقاً لترتيبه الزّمني، كأن نقول (حبّي الأول)؟ أليس في العبارتين تناقض واضح ومخالفة منطقية؟ إذ تؤكد (حبّ حياتي على عدم إمكانية تكرار تجربة الحب) في حين تؤكد (حبّي الأول) على امكانية تعدده!
وإن كانت البيولوجيا تؤكّد عدم وجود جينٍ للشيخوخة، وانما هي مجرد ظروف سلبية تطرأ على آلية العمل الحيوية في الجسد البشري مما يصيبها بالتلف المتمظهر على شكل تجاعيد وهالات، فعلى أيّ أساسٍ قيل (سنكبر ونشيخ معا وتشيب رؤوسنا ونموت معا أيضا)؟ وما الإثبات على أن كل البشر يمرّون بهذا الزقاق؟ أليس ثمة من يموت في ريعان شبابه؟
هل يمكن أن نضمن نفس التغيرات ونفس آثار التلف والهرم والشيخوخة على اثنين من نفس العمر يتم اختيارهما من عينات مجتمعية عشوائية؟ وما الدليل على أن الناجح في حياته العلمية هو فاشل في حياته العملية؟ وهل يفرّق الموت بين رجل طيّب وآخر (حرامي)؟! أم أنّ كل ذلك يتحقق، فقط لأن الناس أرادوه!
تتم صنع سلة من الأوهام لتُحشى بكل ما يراد له الإنتشار في أوساط الناس، هكذا تُصنع المعتقدات ولهذا القصد يُصنع النجوم والمشاهير، فما يقوله أحدهم يتحوّل إلى حقيقة، تماما كعبارة (الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر) والتي أٌثبت كذبها لمرّتين في العامين 2000 و2006.
يتبنّى غاسلو الأدمغة هنا تقنيّة (اكذب واكذب واكذب فلا بد أن يصدّقك أحدهم)، إذ تقوم دُماهم بنشر أطنان من الأكاذيب حول جهة ما مع التراكم الزمني إلى أن يصدّق الجمهور، فغالب الجماهير التي لا تعتدّ بمقدار ما في الأفكار العابرة من حقيقة تعتمد الظاهر الإحصائي فيها، فترجّح احتمالية وجود 20 بالمئة من الحقيقة في هذه الأفكار على الأقل (دون برهان)، وتردد عبارة (من غير المعقول أن تكون كل هذه الأفكار مكذوبة)، والحال، أنْ لا مانع في معايير المعقولية من أن تكون كلّ هذه الأفكار مكذوبة! كما أنْ لا دليل على أن مقدار الصّحة في هذه الأكاذيب هو 20 بالمئة! كما أن لا مبرر لتمرير ما يذاع على الشاشات كلّه باعتباره حقيقة مطلقة.
*كاتب وشاعر كويتي